أحمد الدرمحي
أحمد الدرمحي
-A +A
قراءة علي الرباعي
يضعك بعض الشعراء أمام مرآة روحه لتشف لك بعض ما يعتمل في وجدانه من الهمّ اليومي الذي هو همّ المجموع في واحد. وتجربة الشاعر أحمد الدرمحي تجربة الشك الذي يفتش في الماء والصحراء والسماء عن يقين، يوقعك بحكاية النص أو النص الحكائي في جدلية مع قسرية الأشياء واقتحامها حياتنا دون إذن مسبق، ليعلن الشعر استنكاره للتحولات التي لا تفسير لها، ولا ريب أن سؤال الفلسفة الكبير عند إيليا أبو ماضي والمعري يأتي على لسان شاعر بسيط الألفاظ عميق المعاني «شيّبت وأنا ما وصلت الثلاثين، وين الشباب وتالي العمر وينه». وكأنما تنقدح في ذهنك قصيدة «جئتُ لا أعلم من أين ولكني أتيتُ».

وكلما رنت مشاعر الدرمحي إلى حضن آمن تجددت مخاوفه، وكلما ظن أنه نجح في ترميم ما تهدم من جدار الروح تطاولت كف الغدر في النيل من صقيل البناء، حتى يغدو الكائن الوديع شكلاً والمتبسم وجهاً بركاناً من الضجيج الداخلي «في داخلي مثل انفجار البراكين، وفي نضرتي لون العيون الحزينة».


تتميز نصوص شاعرنا بالقدرة على البناء الدرامي التصاعدي، إذ له من القدرات ما يمكنه أن يضعنا في التيه بتراجيديا بيضاء ويتبوأ الآمن بكوميديا سوداء لكنه سرعان ما يقلب المعادلة ليضع سامعه وقارئه في الأمان وينفرد بالتيه، فيتحول النص إلى مشهد والكلام إلى صورة حركية، تعبّر عن مواجع يومية باردة بكلام ساخن غير عاد، والشاعر محتفظ بهدوئه الظاهر غير عابئ بأمواج تتراكض من حوله في جلبة «اسهر سهر من حملوه العرب دين، يصبح وهم في ساحته طالبينه». ولا أبلغ من صورة غارم يعلم أن موعد وفاء الدين يحين وهو ليس بيده ولا حوله وقوته ما يسد به دينه، وكأنما البيت الشعري مشهد سينمائي لغرماء متقاطرين إلى منزل غريمهم وهو في حالة يرثى لها.

ويتصاعد الوجع الوجداني في منعطف تصويري لحالة إنسانية موغلة في تراجيديتها، تكاد تتمثل للقروي والمديني من خلال حالة اليتم التي تزف رياحها عبر تيارين فقدان الأم والأب «ابكي بكا طفلٍ يتيمٍ من اثنين، مهما بكى ما أظنهم سامعينه».

وإذا كان اليتم موجعاً بل هو أقسى أنواع المعاناة الحياتية، فإن الشاعر في ظل شفافية روحه لا يملك إلا أن الاندغام في شقاء غيره ليطفر ما يجيش من لواعج وما يحتدم من انفعالات عبر نزف لا قدرة له على حبسه، خصوصاً أنه يتحول إلى كائن بقلبين لا قلب واحد «وانـزف وكـن الله خلقـنـي بقلبـيـن، تنـزف مـن اوداج المعـنـى غبيـنـه».

وكحالة الرمز المتنبي في عشقه للشقاء، وإصراره عليه، وإن كان محسوداً بما هو شاك منه، فالدرمحي يرفض الركون إلى راحة المترفين ويفضّل عليها عيشة البسطاء الكادحين «لو سكّنوني في قصور السلاطين، واعطوني أموال التجور الثمينه، واسقوني ألما تحت ظل البساتين، مع فاتنه من فاتنات المدينه، مالي حياة إلا حياة المساكين، ما دام علة قلب الإنسان عينه». هذا الذي يدوزن المساءات على لحن قافيته شاعر يؤثر الظل ليحتل شعره صدارة الضوء.